فصل: تفسير الآيات (71- 73):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (71- 73):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)}
وقوله تعالى: {ياأيها الذين ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ...} الآية: هذا خطابٌ للمُخْلِصِينَ من أُمَّة نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، وأمْر لهم بجهادِ الكفَّارِ، والخُرُوجِ فِي سَبيلِ اللَّهِ، وحمايةِ الإسلامِ، و{خُذُواْ حِذْرَكُمْ}: أي: احزموا واستعدوا بأنواع الاِستعدادِ، و{انفروا}: معناه: اخرجوا، و{ثُبَاتٍ}: معناه جماعاتٍ متفرِّقات، وهي السَّرَايَا، والثُّبَةُ: حُكِيَ أنها فوق العَشَرة، و{جَمِيعاً}: معناه: الجيش الكَثِير مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ هكذا قال ابنُ عبَّاس وغيره.
وقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنكُمْ} إيجابٌ، والخطابُ لجماعةِ المؤمنين، والمراد ب مَنْ: المنافقُونَ، وعبَّر عنهم ب {مِنكُمْ} إذ في الظاهر في عِدَادِ المُؤْمنين، واللامُ الدَّاخلةُ على مَنْ: لامُ التأكيدِ، والداخلةُ على: {يُبَطِّئَنَّ}: لامُ القَسَم؛ عند الجمهور، وتقديره: وإنَّ منكم لَمَنْ، وَاللَّهِ، لَيُبَطِّئَنَّ، ويِبَطِّئَنَّ: معناه: يبطِّئ غَيْرَهُ، أيْ: يثبِّطهُ،. ويحمِلُه على التخلُّف عن مغازِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ومُصِيبَة، يعني: مِنْ قتالٍ، واستشهادٍ، وإنما هي مصيبةٌ بحَسَب اعتقاد المنافقين ونَظَرِهِمُ الفاسِدِ، وإنَّما الشهادةُ في الحقيقَةِ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّه سبحانه؛ لِحُسْنِ مآلها، و{شَهِيداً}: معناه: مُشَاهِداً.
وقوله تعالى: {وَلَئِنْ أصابكم فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ}، أي: ظَفِرْتم وغَنِمْتم، نَدِمَ المنافقُ، وقال: {ياليتني كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً} متمنِّياً شيئاً قد كان عَاهَدَ أنْ يفعله، ثم غَدَرَ في عَهْدِهِ.
وقوله تعالى: {كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ}: التفاتةٌ بليغةٌ، واعتراض بَيْنَ القائلِ والمَقُولِ بِلفظ يُظْهِرُ زيادةً في قُبْحِ فعلهم، وقال الزَّجَّاج: قوله: {كأنْ لم تكُنْ بينكم وبينه مودة} مؤخَّر، وإنما موضعه: {فإنْ أصابَتْكُمْ مصيبةٌ}،
قال * ع *: وهذا ضعيفٌ؛ لأنه يُفْسِدُ فصاحةَ الكَلاَم.
قال * ص *: وقوله: {فَأَفُوزَ} بالنصبِ: هو جوابُ التمنِّي. انتهى.

.تفسير الآيات (74- 76):

{فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)}
وقوله تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله الذين يَشْرُونَ الحياة الدنيا بالآخرة...} الآية: هذا أمر من اللَّه سبحانه للمؤمنين بالجهادِ، ويَشْرُونَ هنا: معناه: يَبِيعُونَ، ثم وصف سبحانه ثوابَ المقاتِلِينَ، والأجْرُ العظيمُ: الجَنَّة.
وقوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لاَ تقاتلون فِي سَبِيلِ الله...} الآية: ما: استفهامٌ، {والمستضعفين}: عطْفٌ على اسمِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، أيْ: وفي سبيل المُسْتَضْعَفِينَ؛ لإستنقاذِهِمْ، ويعني ب {المستضْعَفِينَ}: مَنْ كان بمكَّة تحْتَ إذلال كَفَرةِ قُرَيْشٍ، وفيهم كانَ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَنْجِ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينِ»، {والولدان}: عبارةٌ عن الصبيانِ، و{القرية} هنا: مَكَّةٌ بإجماعٍ، والآيةُ تتناوَلُ المؤمنين والأسرى في حواضِرِ الشِّرْك إلى يوم القيامة.
قال ابنُ العربيِّ في أحكامه: قال علماؤُنَا رحمهم اللَّه: أوجَبَ اللَّهُ تعالى في هذه الآيةِ القِتَالَ؛ لإستنقاذ الأسرى مِنْ يَدِ العدُوِّ، وقد رَوَى الأئمَّة أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَطْعِمُوا الجَائِعَ، وَعُودُوا المَرِيضَ، وَفُكُّوا العَانِيَ» يعني: الأسيرَ، قال مالكٌ رحمه اللَّه: علَى النَّاسِ أَنْ يَفُكُّوا الأسرى بجميعِ أموالِهِمْ؛ وكذلك قالُوا: عليهمْ أنْ يُوَاسُوهُمْ. انتهى.
وقوله تعالى: {الذين ءَامَنُواْ يقاتلون فِي سَبِيلِ الله...} الآية: هذه الآيةُ تقتضِي تقْويَةَ قُلُوبِ المؤمِنِينَ وتَحريضَهُمْ، وقَرِينَةُ ذِكْرِ الشيطانِ بَعْدُ تدُلُّ على أَنَّ المرادَ بالطَّاغُوتِ هنا الشيطانُ، وإعلامُهُ تعالى بضَعْفِ كيدِ الشيطانِ فيه تقويةٌ لقلوب المؤمنِينَ، وتجرِئَةٌ لهم على مُقَارَعَةِ الكيدِ الضعيفِ؛ فإنَّ العزم والحَزْم الذي يكُونُ على حقائقِ الإيمان يَكْسِرُهُ ويهدُّه.

.تفسير الآيات (77- 78):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)}
وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصلاة...} الآية: اختلف المتأوِّلون، فِيمَن المرادُ بقوله: {الذين قِيلَ لَهُمْ}.
فقال ابنُ عَبَّاس وغيره: كان جماعةٌ من المؤمنين قد أَنِفُوا من الذُّلِّ بمَكَّةَ قَبْلَ الهِجْرة، وسألوا رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبِيحَ لَهُمْ مقاتَلَةَ المُشْركين، فأمرهم عَنِ اللَّهِ تعالى بكَفِّ الأيْدِي، فلَمَّا كتب عليهم القتالُ بالمدينةِ، شَقَّ ذلك على بعضهم، ولَحِقَهُمْ ما يلْحَقُ البَشَر من الخَوَرِ والكَعِّ عَنْ مقَارَعَةِ العدُوِّ، فنزلَتِ الآية فيهم.
وقال ابنُ عباس أيضاً ومجاهدٌ: إنما الآيةُ حكايةٌ عنْ حالِ اليَهُود؛ أنهم فعلوا ذلكَ مَعَ نبيِّهم في وَقْتِهِ، فمعنى الحكايةِ عنهم تقبيحُ فِعْلِهِمْ، ونَهْيُ المؤمنين عَنْ فِعْلِ مثله.
وقيل: المرادُ المنافقُونَ.
وأَوْ: تقدَّم شرحُها في سورة البقرة؛ في قوله تعالى: {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74]؛ لأنَّ الموضعَيْنِ سواءٌ.
وقولهم: {لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القتال}: رَدٌّ في صَدْر أوامرِ اللَّهِ سبحانه، وقلَّةُ استسلام له، والأَجَلُ القريبُ: يعنُونَ به موتَهُمْ على فُرُشِهِمْ؛ هكذا قال المفسِّرون.
قال * ع *: وهذا يحسُنُ؛ إذا كانتِ الآيةُ في اليَهُودِ أو في المنافِقِينَ، وأما إذا كانت في طَائِفَةٍ من الصحابةِ، فإنما طَلَبُوا التأخُّر إلى وَقْتِ ظُهُورِ الإسلامِ، وكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ، ويُحَسِّنُ القولَ بأنها في المنافِقِينَ اطراد ذِكْرِهِمْ فيما يأتِي بَعْدُ من الآيات.
وقوله سبحانه: {قُلْ متاع الدنيا قَلِيلٌ} المعنى: قل، يا محمَّد، لهؤلاءِ: متاعُ الدنيا، أي: الاِستمتاعُ بالحياةِ فيها الَّذي حَرَصْتُم علَيْهِ قليلٌ، وباقي الآيةِ بيِّن.
وهذا إخبارٌ منه سبحانه يتضمَّن تحقيرَ الدُّنْيا، قلْتُ: ولِمَا عَلِمَ اللَّهُ في الدنيا مِنَ الآفات، حمى منها أولياءه، ففِي الترمذيِّ عن قتادة بن النُّعْمَان، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ: «إذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْداً، حَمَاهُ الدُّنْيَا؛ كَمَا يَظَلُّ أَحَدُكُمْ يَحْمِي سَقِيمَهُ المَاءَ»، قال أبو عيسى: وفي البابِ عَنْ صُهَيبٍ، وأُمِّ المُنْذِرِ، وهذا حديثٌ حسنٌ، وفي الترمذيِّ عن ابن مسعودٍ قال: نَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم على حَصِيرٍ، فَقَامَ وَقَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوِ اتخذنا لَكَ فِرَاشاً؟! فَقَالَ: «مَالِي ومَا لِلدُّنْيَا، مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إلاَّ كَرَاكِبٍ استظل تَحْتَ شَجَرَةٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا»، وفي الباب عن ابنِ عُمَر، وابن عبَّاس، قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. انتهى.

وقوله سبحانه: {فِي بُرُوجٍ} الأكثرُ والأصحُّ الذي علَيْه الجمهورُ: أنه أراد ب البُرُوج: الحُصُونَ التي في الأرْضِ المبنيَّة؛ لأنها غايةُ البَشَر في التحصُّن والمَنَعة، فمَثَّل اللَّه لهم بها، قال قتادة: المعنى: في قصورٍ محصَّنة؛ وقاله ابنُ جُرَيْجٍ والجُمْهُور، وبَرَّجَ: معناه: ظَهَر؛ ومنه تبرُّج المرأة، و{مُّشَيَّدَةٍ}: قال الزَّجَّاج وغيره: معناه: مرفُوعَة مطوَّلة؛ ومنه أَشَادَ الرَّجُلُ ذِكْرَ الرَّجُل؛ إذا رفَعَهُ، وقالتْ طائفةٌ: {مُّشَيَّدَةٍ}: معناه: محسَّنة بالشِّيدِ، وهو الجَصُّ، وروى النسائيَّ عن أبي هُرَيْرَة؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
«أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ»، يعني: الموتَ، وخرَّجه ابنُ ماجة والترمذيُّ، وخرَّجه أبو نُعَيْمٍ الحافظُ بإسناده من حديثِ مالكِ بْنِ أنس، عن يَحْيَى بْنِ سعيدٍ، عَنِ ابنِ المُسَيَّب، عن عمرَ بْنِ الخطَّاب، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بمثله، وروى ابنُ ماجة بسَنَده، عنِ ابن عُمَرَ؛ أنَّهُ قَالَ: كُنْتُ جَالِساً مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ المُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «أَحْسَنُهُمْ خُلُقا»، قَالَ: فَأَيُّ المُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ؟ قَالَ: «أَكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْراً، وَأَحْسَنُهُمْ لِمَا بَعْدَهُ استعدادا أُولَئِكَ الأَكْيَاسُ»، وأخرجه مالك أيضاً. انتهى من التذكرة.
وقوله تعالى: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ...} الآية: الضميرُ في {تُصِبْهُمْ} عائدٌ على {الذين قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ}؛ وهذا يدلُّ على أنَّهم المنافقون؛ لأن المؤمنين لا تليقُ بهم هذه المقالةُ؛ ولأنَّ اليهودَ لم يكُونوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم تَحْتَ أمْرٍ، فتصيبهم بِسَبَبِهِ أَسْوَاءٌ، والمعنى: إنْ تُصِبْ هؤلاءِ المنافقين حَسَنَةٌ من غنيمةٍ أو غيرِ ذلك، رَأَوْا أنَّ ذلك بالاتفاقِ مِنْ صُنْع اللَّه، لا ببَرَكَةِ اتباعك والإيمانِ بِكَ، وإنْ تصبْهم سيِّئةٌ، أي: هزيمةٌ، أو شدَّةُ جُوعٍ، أو غيرُ ذلكَ، قالوا: هذه بسَبَبِكَ.
وقوله: {قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ الله}: إعلامٌ من اللَّه سبحانه؛ أنَّ الخيْرَ والشرَّ، والحسنَةَ والسيِّئة خَلْقٌ له، ومِنْ عنده، لا رَبَّ غيره، ولا خَالِقَ ولا مُخْتَرِعَ سواه، والمعنى: قل، يا محمَّد، لهؤلاَءِ.
ثُمَّ وبَّخهم سبحانه بالاستفهامِ عن عِلَّةِ جهلهم، وقلَّةِ فهمهم، وتحصِيلِهِمْ لما يُخْبَرُونَ به من الحقائِقِ، والْفِقْهُ في اللغةِ: الفَهْمُ، وفي الشَّرْعِ: الفهمُ في أمورِ الدِّين، ثم غَلَبَ علَيْهِ الاستعمالُ في عِلْمِ المسائِلِ الأحكاميَّة.

.تفسير الآيات (79- 81):

{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)}
وقوله تعالى: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله...} الآية: خطابٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وغيرُهُ داخلٌ في المعنى، ومعنى الآية؛ عند ابنِ عَبَّاس وغيره: على القَطْع، واستئناف الأخبارِ مِنَ اللَّه عزَّ وجلَّ؛ بأنَّ الحسَنَةَ منْه، ومِنْ فضله، وبأنَّ السيئةِ مِنَ الإنسان؛ بإذنه، وهي من اللَّه تعالى بخَلْقِهِ واختراعه، لا خالِقَ سواه سبحانه، لا شريكَ لَهُ، وفي مُصْحَفِ ابنِ مَسْعودٍ: {فَمِنْ نَفْسِكَ، وَأَنَا قَضَيْتُهَا عَلَيْكَ}، وقرأ بها ابنُ عَبَّاس، وفي رواية: {وَأَنَا قَدَّرْتُهَا عَلَيْكَ}؛ ويعْضُدُ هذا التأويلَ أحاديث عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم معناها: أنَّ ما يُصِيبُ ابْنَ آدَمَ من المصائِبِ، فإنما هو عقوبةُ ذنوبه، قال أبو جعفر أحمَدُ بْنُ نَصْرٍ الدَّاوُودِيُّ: قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ}: خطابٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، والمرادُ غيره. انتهى.
وفي قوله سبحانه: {وأرسلناك لِلنَّاسِ رَسُولاً}، ثم تلاه بقوله: {وكفى بالله شَهِيداً}: توعُّدٌ للكُفَّار، وتهديدٌ تقتضيه قُوَّة الكلامِ؛ لأن المعنى: شهيداً على مَنْ كذَّبه.
وقوله تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله}، فالمعنى: أنَّ الرسول عليه السلام إنما يأمر وينهى؛ بياناً وتبليغاً عن اللَّه، و{تولى}: معناه: أَعْرَضَ، و{حَفِيظاً}: يحتملُ معنَيَيْنِ: أي: لِتَحْفَظَهُمْ حتى لا يقَعُوا في الكُفْر والمعاصِي ونحوه، أو لتَحْفَظَ مساوِيَهُمْ وتَحْسِبَها عليهم، وهذه الآيةُ تقتضِي الإعراضَ عَمَّنْ تولى، والتَّرْكَ له، وهي قَبْلَ نزولِ القِتَالِ، وإنما كانَتْ توطئةً ورِفْقاً من اللَّه عز وجل؛ حتى يستحكم أمرُ الإسلام.
وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ...} الآية: نزلَتْ في المنافقينَ باتفاق المفسِّرين، المعنى: يقولُونَ لك، يا محمَّد: أَمْرُنَا طاعةٌ، فإذا خرجوا مِنْ عِنْدِكَ، اجتمعوا ليلاً، وقالوا غيْرَ ما أظهروا لَكَ، و{بَيَّتَ}: معناه: فَعَلَ لَيْلاً، وهو مأخوذٌ مِنْ بَاتَ أوْ مِنَ البَيْتِ؛ لأنه مُلْتَزَمٌ باللَّيْل.
وقوله: {تَقُولَ}: يحتملُ أنْ يكون معناه: تَقُولُ أنْتَ، ويحتملُ تَقُولُ هِيَ لَكَ، والأمْرُ بالإعراض إنَّما هو عِنْدَ معاقبتهم ومجازاتِهِمْ، وأما استمرار عِظَتِهِمْ ودَعْوتِهِم، فلازمٌ، ثم أمر سبحانه بالتوكُّل عليه، والتمسُّك بعُرْوته الوثقى؛ ثقةً بإنجاز وعده في النَّصْر، والوَكِيلُ: القائمُ بالأمورِ المُصْلِحُ لما يُخَافُ مِنْ فسادها.

.تفسير الآيات (82- 84):

{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83) فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)}
وقوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرءان...} الآية: المعنى: أَفلا يتدبَّر هؤلاءِ المنافقُونَ كَلاَمَ اللَّه تعالى، فتظهر لهم براهِينُهُ، وتلُوح لهم أدلَّته، قُلْتُ: اعلم رحمك اللَّه تعالى؛ أنَّ تدبُّر القرآن كفيلٌ لصاحبه بكُلِّ خير، وأما الهَذْرَمَة والعَجَلَةُ، فتأثيرُها في القَلْب ضعيفٌ؛ قال النوويُّ رحمه اللَّه: وقد كَرِهَ جماعةٌ من المتقدِّمين الخَتْمَ فِي يومٍ وليلةٍ؛ ويدلُّ عليه ما رُوِّينَاهُ بالأسانيدِ الصَّحيحة في سُنَن أبي دَاوُد، والتِّرمذيِّ، والنَّسَائِيِّ وغيرها، عن عبد اللَّه بْنِ عَمْرِو بْنَ العَاصِي، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَفْقَهُ مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلاَثٍ» انتهى.
قال * ع*: والتدبُّر هو النظر في أعقابِ الأُمُور وتأويلاتِ الأشياءِ، هذا كلُّه يقتضيه قولُهُ سبحانه: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرءان}، وهذا أمرٌ بالنَّظَرِ والاستدلال، ثم عَرَّف تعالى بِمَوْقِعِ الحُجَّة، أي: لو كان مِنْ كلامِ البَشَر، لَدَخَلَهُ مَا فِي البَشَرَ من القُصُور، وظهر فيه التناقُضُ والتنافِي الَّذي لا يُمْكِنُ جَمْعُه؛ إذ ذلك موجودٌ في كلامِ البَشَرِ، والقرآنُ منزَّه عنه؛ إذ هو كلامُ المحيطِ بِكُلِّ شيء سبحانه.
قال * ع *: فإن عرضَتْ لأحدٍ شبهةٌ، وظنَّ اختلافا في شَيْءٍ مِنْ كتابِ اللَّه، فالواجبُ أنْ يتَّهم نَظَرَهُ ويسأَلَ مَنْ هو أعلَمُ منه.
وقوله تعالى: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الأمن أَوِ الخوف...} الآية: قال جُمْهور المفسِّرين: إن الآيةَ من المنافِقِينَ حَسْبما تقدَّم، والمعنى: أنَّ المنافقين كانوا يتشوَّفون إلى سماعِ ما يُسِيءُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فإذا طَرَأَتْ لهم شبهةُ أَمْنٍ للمسلمينَ، أو فَتْحٍ عليهم، حَقَّرُوهَا وصَغَّروا شأنَها، وأذاعوا ذلك التحْقيرَ والتَّصْغِيرَ، وإذا طرأت لهم شُبْهَةُ خوفٍ للمسْلِمينَ أو مُصِيبةٍ، عَظَّموها، وأذاعوا ذلك، و{أَذَاعُواْ بِهِ}: معناه: أَفْشَوْهُ، وهو فِعْلٌ يتعدى بحرفِ الجَرِّ وبنفسه أحياناً.
وقالت فرقة: الآية نزلَتْ في المنافقين، وفِيمَنْ ضَعُفَ جَلَدُه، وقَلَّتْ تجْرِبَتُهُ مِنَ المؤمنين؛ وفي الصحيحِ مِنْ حديثِ عُمَرَ بْنِ الخطَّاب رضي اللَّه عنه؛ أنه جَاءَ، وَقَوْمٌ فِي المَسْجِدِ، يَقُولُونَ: طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ، ثُمَّ قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟ فَقَالَ: لاَ، قَالَ عُمَرُ: فَقُمْتُ على بَابِ المَسْجِدِ، فَقُلْتُ: أَلاَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُطَلِّقْ نِسَاءَهُ، فأنزَلَ اللَّه تعالى هذه الآيةَ.
{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمن أَوِ الخوف...} الآية؛ قال: وَأَنَا الَّذِي استنبطته.
وقوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول...} الآية: المعنى: لو أمسكوا عن الخَوْض واستقصوا الأمرِ مِنْ قِبَلِ الرسولِ، وأولِي الأمْر، وهم الأَمَرَاءُ والعُلَمَاءُ، لَعَلِمَهُ طُلاَّبُهُ مِنْ أُولِي الأمْرِ، والبَحَثَةِ عنه، وهم مستنْبِطُوهُ؛ كَمَا يُسْتَنْبَطُ الماءُ، وهو استخراجه مِنَ الأرْضِ.
وقوله سبحانه: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ.
..} الآية: خِطَابٌ لجميعِ المؤمنينَ؛ باتفاقٍ من المتأوِّلين، وقوله: {إِلاَّ قَلِيلاً} هو مستثنى في قول جماعةٍ من قوله: {لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان إِلاَّ قَلِيلاً}، وقال ابن عَبَّاس، وابن زَيْدٍ: ذلك مستثنًى من قوله: {أَذَاعُوا بِهِ إلاَّ قليلاً}، ورجَّحه الطبريُّ، وقال قتادة: هو مستثنًى من قوله: {يستنبطُونَهُ إلا قليلاً}.
* ت *: قال الدَّاوُوديُّ: قال أبو عُبَيْدة: وإنما كَرِهَ العلماءُ أنْ يجعلوا الاِستثناءَ مِنْ قوله:
{لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان إِلاَّ قَلِيلاً}؛ لأنَّه لا وَجْهَ له؛ فإنَّه لولا فَضْلُ اللَّهِ ورحْمَتُهُ، لاتبعوا الشيْطَانَ كلُّهم. انتهى، وهو حَسَنٌ، وأما قوله: لا وَجْهَ له، ففيه نظَرٌ، فقد وجَّهه العلماءُ بما لا نُطِيلُ بذكْره.
وقوله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله...} الآية: هذا أَمْرٌ في ظاهرِ اللَّفْظ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم وَحْده، لكن لم نَجِدْ قَطُّ في خَبَرٍ، أنَّ القتالَ فُرِضَ علَى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، دون الأُمَّة مُدَّةً مَّا، والمعنى، واللَّه أعلَمُ؛ أنه خطابٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم في اللفظِ، وهو مثالُ مَا يُقَالُ لكلِّ واحدٍ في خاصَّة نَفْسه، أي: أنْتَ، يا محمَّد، وكلُّ واحدٍ من أمَّتك القولُ لَهُ: فقاتِلْ في سبيلِ اللَّه، لا تُكَلَّف إلاَّ نَفْسَكَ، ولهذا ينبغي لكلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يستَشْعِرَ أنْ يُجَاهِدَ، ولو وحْدَه؛ ومِنْ ذلك قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «وَاللَّهِ، لأُقَاتِلَنَّكُمْ حتى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي»، وقولُ أبِي بَكْرٍ رضي اللَّه عنه وَقْتَ الرِّدَّةِ: وَلَوْ خَالَفَتْنِي يَمِينِي، لَجَاهَدتُّهَا بِشِمَالِي، وعسى إذا وردَتْ من اللَّه تعالى، فقال عكرمة وغيره: هي واجِبَةٌ؛ بفَضْلِ اللَّه ووَعْده الجميلِ، قلْتُ: أيْ: واقعٌ مَّا وعَدَ به سبحانه، والتنكيلُ: الأخْذُ بأنواعِ العَذَابِ.